-A +A
نجيب يماني
لا يستطيع أيّ أحد أن ينكر أو يتعامى عن أهمّية القمة السعودية الأمريكية الأخيرة، بالنظر إلى الظرف الدقيق والحسّاس الذي جرت فيه، والمتغيرات الكبيرة والتعقيدات الخطيرة التي يشهدها العالم، سياسيًّا واقتصاديًّا، وتكفينا الإشارة فقط إلى ملفات ساخنة مثل: النووي الإيراني، والحرب الروسية الأوكرانية، والقضية اليمنية، وسوق النفط، وقضايا المناخ والأمن الغذائي العالمي، وغير ذلك من ملفات تندرج في قائمة القضايا الملحة عالميًا، وتلعب المملكة العربية السعودية دورًا مهمًا وأساسيًا في إيجاد الحلول لها ضمن المنظومة العالمية، ولهذا فلم يكن مستغربًا أن يدير العالم بوصلة اهتمامه باتجاه جدة، مترقبًا نتائج هذه القمة، التي لم تخذل دوائر الترقّب، حيث جاءت مبشّرة بنجاحاتها على كافة المستويات، وهو نجاح يتسق وينسجم مع روح العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، ورغبتهما المستمرة في تطويرها وتنميتها بما يحقق المصالح لشعبيهما، على نحو ما جرت عليه الأمور لأكثر من ثمانية عقود من علاقة تجذّرت بشكل جوهري مهم، وباتت تشكّل منطلقًا مهمًا لصنع القرارات والمواقف في المنطقة والإقليم بما يحفظ التوازن والسلم العالمي.

ومع تسليمنا المطلق بالنتائج الباهرة لهذه القمة؛ لكننا في المقابل لا نستطيع بأيّ حال من الأحوال أن نغض الطرف عن بعض الملاحظات المهمة التي سبقت هذه الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي جو بايدن، والأجواء الغائمة التي صنعتها مقولات راديكالية صدرت عن الجانب الأمريكي، وخلقت حالة من التوتّر لم يكن له من داعٍ أصلاً لو رُوعيت فيها الأعراف الدبلوماسية، والحكمة الضرورية الضابطة للمسافة بين الدول في سياق التقدير المتبادل، واحترام سيادتها على أراضيها بما هو منصوص عليه في ميثاق الأمم المتّحدة..


وأجد نفسي مضطرًا لإعادة هذه القضية إلى الواجهة، في هذا الوقت الاحتفائي بنتائج القمة السعودية الأمريكية، للتأكيد على أن هذه العلاقة الراسخة بين الرياض وواشنطن يجب أن تكون بمنأى عن المغامرات السياسية الطارئة، والتكتيكات الانتخابية في الساحة الأمريكية بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين»، بحثًا عن الكرسي الكبير في البيت الأبيض، عبر استمالة الناخب الأمريكي بإطلاق وعود «متطرفة»، في حالة هياج وتحفيز جماهيري بخطاب تجييشي تجاه المملكة العربية السعودية وقيادتها، وتشكيل صورة شائهة عنها، على نحو ما فعل جو بايدن في حملته الانتخابية والتي أوحى فيها البيت الأبيض بأن بايدن لن يلتقي ولي العهد السعودي وذلك استجابة لضغوط حادة داخل الولايات المتحدة والحزب الديمقراطي الحاكم، واللوبيات المناوئة للسعودية. لكن الرئيس الأمريكي اختار الواقعية وقررالتعامل معها كأمر واقع، بما أوقعه في «حرج» كبير وهو يقرر زيارة المملكة، و«فرض» عليه أن يستبق هذه الزيارة، بـ«مقال» تبريري تحت عنوان: «لماذا أذهب للسعودية؟» نشر في الواشنطن بوست، والذي قوبل بردود فعل متباينة، وهي ذات الردود المتفاعلة التي قابلت خطابه من جدة، عشية انتهاء القمة السعودية الأمريكية.

ولست هنا بصدد التنويه بمفضيات المقال، أو الخطاب الأخير لبايدن، فمن الواضح أنهما يعنيان ويخاطبان الداخل الأمريكي بشكل مباشر، ويحاولان – في حياء – ردم الهوّة بين وعد انتخابي راديكالي، وزيارة اقتضتها ظروف المتغيرات العالمية، وحتمية العلاقة، ومنطقية الأحداث، بعيدًا عن الخطابات الديماجوجية.. ولعل في هذا الموقف «المحرج» درسًا جديدًا لبايدن أو غيره ممن يحلمون بسيادة البيت الأبيض ألا يجعلوا من المملكة العربية السعودية وقيادتها ورقة تلويح للترجيح في الانتخابات، فالذاكرة السعودية ليست من الضحالة بحيث تنسى مثل هذه المواقف، وليست قيادتها من الضعف بحيث تكون هدفًا ومرمى لمثل هذه الخطابات غير المسؤولة، ولكن حكمتها وإدراكها لماهية العلاقات الإستراتيجية وضرورة صونها يتوجّب قدرًا من التغاضي عن الترهات، ومساحة من التجاوز لسوء التقديرات التي تصدر بين الفينة والأخرى، وهو أمر محسوب بحسابه، ومقدّر بزمنه، ودونكم قمة جدة، وما حدث فيها، ولا نزيد في ذلك.

مجمل القول؛ إن العلاقة السعودية الأمريكية راسخة وقويّة ومتينة، وعلى إدارة بايدن، والإدارات التي ستعقبها في البيت الأبيض؛ جمهورية كانت أو ديمقراطية، أن تعي ذلك وعيًا يعصمها من المغامرات غير المحسوبة، وأن تعمل على إبقاء هذه الجذوة متقدة بما يحقق مصالح الشعبين، كما أن عليها أن تعي جيدًا الواقع الجديد في المملكة المستظل تحت رؤية 2030، وأن تعلم أنها رؤية أُوجدت لتصنع وضعًا مغايرًا في المملكة، وليست ضربًا من الأحلام التي لا تقوم على سيقان، وتملك الإرادة والقوة والعزيمة والمعطيات التي تمكّنها من إنزالها على أرض الواقع في المواقيت المضروبة؛ فمتى ما أدركت إدارة بايدن - أو غيرها - ذلك، وحفظت هذه العلاقة بما يضمن استمرارها وتوهجها القديم، فإنها الكاسب الأكبر المستقوي بحليف ذي ثقل ووزن كبيرين.. حليف باتت تخطب ودّه أقطاب عديدة، وتسعى لتحالفات مثمرة معه في شتى المجالات بلا استثناء، بما سيغير المعادلات القديمة، ويقلب الصور النمطية، ويعيد ترتيب الأوضاع على قاعدة «فِدْ واستفد»، لا غيرها، وهو أمر تعي الولايات المتحدة الأمريكية جيدًا مآلاته ومفضياته ومترتباته.

حفظ الله وطني وقيادته الحكيمة وهي ترقى وترتقي به إلى مكانه الصحيح في عالم اليوم.